الأحوال التي فيها يؤاخذ المرء بحديث النفس
الأحوال التي فيها يؤاخذ المرء بحديث النفس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالذي ننصحك به ونرشدك إليه هو أن تستمر في قراءة القرآن في هذا الوقت المبارك،
وتجاهد نفسك على الانصراف عما يخطر ببالك حالة القراءة من وساوس شيطانية
في أي مجال من المجالات سواء كان ذلك في شك في العقيدة ينتابك عند قراءة بعض الآيات،
أو الشك في شيء منها أو في ممارسة حرام أو غير ذلك فإن هذه الوسوسة
من الشيطان ليصرفك عن كتاب ربك،
واعلم أن الله لا يؤاخذك على ما يدور في قلبك ما لم تعزم وتعقد قلبك عليه،
وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، وهناك تفصيل جميل لما يجري في النفس، ومتى يؤاخذ عليه الإنسان، ومتى لا يؤاخذ،
ذكره السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر ننقله بطوله للفائدة وهذا نصه:
من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم:
إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به.
ووقع في فتاوى قاضي القضاة تقي الدين بن رزين أن الإنسان إذا عزم على معصية فإن كان قد فعلها ولم يتب منها فهو مؤاخذ بهذا العزم لأنه إصرار،
وقد تكلم السبكي في الحلبيات على ذلك كلاما مبسوطا أحسن فيه جدا فقال:
الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب:
الأولى: الهاجس: وهو ما يلقى فيها، ثم جريانه فيها وهو الخاطر،
ثم حديث النفس: وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا ؟
ثم الهم: وهو ترجيح قصد الفعل،
ثم العزم: وهو قوة ذلك القصد والجزم به،
فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعا لأنه ليس من فعله
وإنما هو شيء ورد عليه، لا قدرة له ولا صنع،
والخاطر الذي بعده كان قادرا على دفعه بصرف الهاجس أول وروده،
ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح، وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى.
وهذه المراتب الثلاثة أيضا لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر.
أما الأول فظاهر، وأما الثاني والثالث فلعدم القصد، وأما الهم فقد بين الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة،
يكتب حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب سيئة، وينتظر فإن تركها لله كتبت حسنة، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة ،
والأصح في معناه أنه يكتب عليه الفعل وحده: وهو معنى قوله واحدة ، وأن الهم مرفوع.
ومن هذا يعلم أن قوله في حديث النفس {ما لم يتكلم أو يعمل } ليس له مفهوم،
حتى يقال: إنها إذا تكلمت أو عملت يكتب عليه حديث النفس; لأنه إذا كان الهم لا يكتب،
فحديث النفس أولى، هذا كلامه في الحلبيات.
وقد خالفه في شرح المنهاج فقال:
إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: { أو تعمل } ولم يقل أو تعمله، قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية، وإن كان المشي في نفسه مباحا، لكن لانضمام قصد الحرام إليه، فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده،
أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق { أو تعمل } المؤاخذة به.
قال: فاشدد بهذه الفائدة يديك، واتخذها أصلا يعود نفعه عليك.
وقال ولده في منع الموانع: هنا دقيقة نبهنا عليها في جمع الجوامع وهي:
أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم ليس مطلقا بل بشرط عدم التكلم والعمل،
وحتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله، ولا يكون همه مغفورا وحديث نفسه
إلا إذا لم يتعقبه العمل، كما هو ظاهر الحديث، ثم حكى كلام أبيه الذي في شرح المنهاج،
والذي في الحلبيات ورجح المؤاخذة،
ثم قال في الحلبيات: وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به،
وخالف بعضهم وقال: إنه من الهم المرفوع، وربما تمسك بقول أهل اللغة، هم بالشيء عزم عليه،
والتمسك بهذا غير سديد لأن اللغوي لا يتنزل إلى هذه الدقائق.
واحتج الأولون بحديث { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: كان حريصا على قتل صاحبه}
فعلل بالحرص، واحتجوا أيضا بالإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب كالحسد ونحوه،
وبقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
{الحج: 25}
على تفسير الإلحاد بالمعصية، ثم قال: إن التوبة واجبة على الفور، ومن ضرورتها العزم على عدم العود،
فمتى عزم على العود قبل أن يتوب منها، فذلك مضاد للتوبة، فيؤاخذ به بلا إشكال،
وهو الذي قاله ابن رزين، ثم قال في آخر جوابه والعزم على الكبيرة،
وإن كان سيئة، فهو دون الكبيرة المعزوم عليها .
والله أعلم.
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|