بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ...
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واحذروا أسباب سخطه وعقوبتِه. واعلموا أن من الذنوب ما تكون عقوبتها مُعجّلةً في الدنيا قبل الآخرة. ومن هذه الذنوب: ما رواه الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق بَابَانِ مُعَجَّلَانِ عُقُوبَتُهُمَا فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ وَالْعُقُوقُ ).
أما العقوق فهو: ترك برِّ الوالدين, وأعظمِ حقٍّ بعد حق الله. فيشمل أمرين: ( الإساءةَ, وتركَ الإحسان ). فأما الإساءة, فهي مُحَرّمة بكل أنواعها ودرجاتها, فيدخل في ذلك تعبيسُ الوجه, وكذلك أخفُّ عبارات التضجر كما قال تعالى: ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾. وهكذا الإحسان, فإنه واجب بجميع أنواعه, بالقول والفعل والمال, لأن الله أمر بالإحسان إليهما ولم يحدد نوعا من أنواع الإحسان, فدل على عمومه من غير تحديد. فمن ترك الإحسان إليهما, فهو عاق لوالديه.
وعقوبة العقوق يا عباد الله مُعجلةٌ في الدنيا مع ما يُدَّخَرُ لهذا العاق من العقوبة في الآخرة. فهو سبب لحلول اللعنة, وذهاب بركة العمر والمال, وسبب لتعسير الأمور, وسوء السُّمعة, وعقوق الأبناء فإن الجزاء من جنس العمل, وسبب لمنع استجابة الدعاء فإن العاق لا يستجاب دعاؤه والعياذ بالله, وسبب لبغض العباد له. أضِفْ إلى ذلك: ما يُبْتَلى به من سوء الخلق وضيق الصدر وبذاءة اللسان. فإن العاقَّ لا يهتدي للأخلاق الطيبة والعياذ بالله.
وأما البغي: فهو التعدي على الغير بغير حق, والتسلط, والظلم, ويكون على النفس, أو على العرض, أو على المال, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ( فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ). ويدخل في ذلك: أن يجتمع قوم لهم شَوْكةٌ ومَنَعَة, فيخرجون بالسلاح على ولي الأمر المسلم. فالبغي ضَرَرُهُ مُتَعَدٍّ, يَدُل على الإستعلاء, وفساد النفوس, وذهاب الرحمة من القلوب.
وإذا كانت عقوبة هذين الذنبين معجلة, فَلازِمُ ذلك أن ثوابَهما مُعَجََّلٌ أيضا لأن لازِمَ الحَقِّ لابد وأن يكون حقًّا. فَبِرُّ الوالدين سبب لسعة الرزق, وطول العمر, وانشراح الصدر, والثناء الحسن, وبر الأبناء, والخروج من المآزق والكُرُبات, وهو أيضاً سبب لاستجابة الدعاء, فإن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن أن أويس القَرَني مستجابُ الدعاء بسبب برِّهِ بأُمِّهِ.
وهكذا ما يتعلق بالبغي: فإن ضِدَّه العَدلُ والرَّحمة, والإحسان, وصنائِعُ المعروف. وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء ). وقال أيضاً: ( صلةُ الرحم, وحسنُ الخُلُق, وحُسْنُ الجوار, تُعَمِّرُ الديارَ, وتَزيدُ في الأعمار ). ولازم ذلك أن ضد هذه الأعمال تُدَمِّرُ الديار, وتُقَصِّرُ في الأعمار.
وتأملوا يا عباد الله قول الله تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ﴾. فإن فيه موعظةً لمن تولى أمرَ يتيمٍ أو ضعيف أو مجنون, أن يتقي الله فيه وفي الإحسان إليه. فإنه إنْ فَعَلَ ذلك, حَفِظَ اللهُ ذُرِّيَّتَه مِن بَعْدِه مكافأةً له على صنيعه. فأحسنوا رحمكم الله إلى اليتامى, والضعفاء, والأرامل, وأبشروا بحفظ الله لذرياتكم من بعدكم, ولا تخافوا عليهم ولا تحزنوا, فإن هذا ضمان من الله لكم مُتَحَقِّقٌ لا محالة, ونِعْمَ الضامِن.
عباد الله: ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ. فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلانٌ. لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ. فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ ).
فانظروا رحمكم الله كيف نزلت البركة من الله على حديقة هذا الرجل, واعلموا أن مثل هذه البركة ليست خاصةً بحديقة هذا الرجل, بل هي عامةٌ لكل من يقوم بمثل هذا العمل, سواء كان زراعة أو تجارة, أو مرتبا يتقاضاه الموظف. واعلموا أيضاً أن لنزول الغيث أسباباً, منها: الصدقة على الفقراء والمحتاجين من الأقارب وغيرهم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم استعملنا في طاعتك وجنبنا ما يسخط علينا، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان.. امين